ليلة فى القاهرة
بقلم / منى شمس الدين
ألقيت أمنيتي في النيل و على حسب ما ذكر عرافي فإن اليوم و تلك الليلة بالتحديد هو الوعد
المنشود .." ليلة ظهور القمر دامي" تمامًا كما كان يرددها , و ليل ساكن سكون لا يفزعك .. كل
الدلالات على حسب ما أخبر توحي بأن هناك خطب على وشك الحدوث لا يمكن أن تكون
مجرد خيالات أعددتها بعقلي المرتقب المتشوق لأمنيته .. إذا كان حق ما أراه سأنتظر بفارغ
الصبر إلى أن يمل الصبر.
لن تخذلني يا نيل في طلبي .. فما طلبته تمنيته أنت .. بادٍ للرائي في جريان مياهك العذبة .. لذا
لقد تشاركنا الحلم سويا فكما تمنيت أن يرتوي منك كل فقير إليك القاصي و الداني أينما كانوا
تمنيت أنا أيضا أن يعم الخير كل فقير فلا نرى محتاج في مدينتي .. ليست المدينة الفاضلة
ولكن ما المانع أن تكون ؟ أن تكون دنيتنا جنة على الأرض .. أو على الأقل مدينتنا و لا يهمني
من العالم كل بقاعه سوى تلك القاهرة
طرقنا أبواب السياسة و لعبنا على الاقتصاد وداعبنا أسس المجتمعات فقط من أجل أن نخلق
المساواة وباءت كل المساعي بالفشل .. إذًأ لم يبق سوى هذا الباب إنه السحر و كلمته
المرغمة دون فرض قوة .. اللعبة المشروعة من وجهة نظري لأن يعم السلام في المنطقة إنها
طريقتي للحب و الخير و الرفاهية دون عناء النظر لسائلٍ معدمٍ جاهلٍ أحمقٍ .
ماذا بعد ؟! .. لازلت أقف أمام النيل كما المتفق و لكن لا أعلم ماذا أفعل .. أأنتظر أن تدق
الساعة أي ساعة و حسب ؟ .. فالقمر على أي الأحوال بازغ و لا يحتاج مني انتظار أكثر ,
أم أسير في الطرقات أتحسس الرعية من حولي لأتفقد بنفسي إن كانت تحققت أم لا ؟ .. الحيرة
و الرهبة و الرغبة كلهم في إناء واحد .. تضارب لا أنكر تصارعه داخلي فاق حد احتمالي
لن أنتظر أكثر .. فقد دقت ساعة الصفر بالنسبة لي على الأقل ..كل العلامات محققة .. "إنها
الآن و في كل الأحوال أي نتيجة ألقاها ستكون أفضل بكثير من ذلك الانتظار المقيت و الغير
المبرر " على هذا الأساس أدرت وجهي عن النيل و بدأت أخطو خطواتي .. حتى و لو كانت
على حذر فلا أنكر أنها في كل مرة كانت تكتسب قوة أكثر للمواجهة .
إلى الآن لم أقابل مسكين .. ربما إشارة .. ربما محض مصادفة .. لن أتعجل العواقب
السيارات فارهة معظمها على قدر ما التقطت عيني .. فلم أرى فيها تلك التي تستدعي حالتها
الشفقة على صاحبها من قبل أن تقع عينك عليه حتى .. لا أصدق أن الحياة ستكون على هذا
الجمال و بهذه البساطة .. لقد ابتسمت عيني من جمال المشهد وحسب
أصابني العطش .. لقد كانت هذه أكبر مسافة أقطعها في حياتي .. و بغض النظر عن شعوري
العارم بالفرح و الذي حجب عني أي شعور آخر إلا أن العطش استطاع ان يجد منفذه للتعبير
.. أتذكر أنه حينما كنت أمر هنا كان يمر الساقي بذاك الشراب الغريب طعمه .. كنت مغرم
بندائه له و كيف كانت كلماته منغمة تجبرك على أن تقع في غرامه وغرام ما يقدمه من قبل
أن يقدمه .." يا .. عرق .. سوس .. شفا .. و .. " شفا و ماذا ؟! .. لا أتذكر البقية .. أين هو؟!
أين ذهب في هذا الصيف الحارق ؟
إنه الكورنيش .. فأين بقية الباعة .. أين ذهبوا يا ترى ؟!.. هنا كان حمص الشام و هنا كان
يجلس الفقراء يلقون بقمامتهم علينا .. " الفقراء " .. أيعقل أن يكون .. ؟ لا .. معقول .. ذهبوا
.. لم يعودوا فقراء لا أصدق .. كيف سيكون العيش من دونهم ؟.. و لكن لا يهم .. لقد أصبحوا
أغنياء و هذا هو الأهم على الإطلاق و عن العوض عنهم بالتأكيد سنجد حلا .. سنجتمع كلنا
لنجد بديلًا , لن أعكر صفوي بتلك التعقيدات الصغيرة .. ثم أن أي وضع بالتأكيد له تداعياته .. و علينا
بآدميتنا الطاغية و الحاكمة أن نوجد تصريف لكل مستجَد لا يتعدى كونه عابرًا .
وجدتني على باب صديقي .. كنا قديما نجتمع نحن و الأصدقاء في هذا الحي القريب لنا جميعًا
.. يبدو أن الحنين قد ساقني لعنده .. استسلمت لرغبتي للإطمئنان عليه و صعدت .. تبادلنا
سلامات حارة تعبر عن ظاهر الأشواق..
" أسف لو كان الوقت غير مناسب "
" لا تقل هذا .. لقد أسعدتني كثيرًا "
أدخلني حيث صالة الاستقبال في المنزل .. ثم تركني للحظات و عاد و هو يعجز عن أن يصل
بأكواب العصير بسلام حيث أجلس
" أسف إن شعرت بالفوضى .. لقد تركتنا الخادمة اليوم و لا نعلم السبب "
" لماذا ؟ "
" لا نعلم .. إنها تدعي وجود ميراثاً ظهر لها و كأنه هبط من السماء فجأة كفيل لأن يغنيها عن
العمل من الأساس "
حقًأ لا أعلم كيف أرد عليه .. لقد تسببت أمنيتي في مشكلة حقيقية لصديقي .. ينتابني فرح
ممزوج بضيق .. شعرت أنه ربما هناك مشكلة بحق ستسود الوضع
" ألديك حل ؟! " ربما عنده تصور عن حل لا أملكه
" لا أعلم .. من ساعتها و نحن نحاول أن نجد آخرى و لكن كأنهن اجتمعن على أن يكرهن
هذا العمل أو كأن الكنز الذي هبط هبط على جميعهن في آن واحد .. أمر عجيب بحق
" حقًأ عجيب "
" دعك من هذا الكلام فلتحدثني عنك "
" أعتذر منك " هببت من مكاني فجأة
" ماذا تقصد ؟! "
" لقد تذكرت أمرًا ما لذا وجب علي النزول "
" حقا "
" أسف اعذرني يا صديقي "
غادرته لأنه كان لابد و أن أطمئن ما الذي أحدثته بالقاهرة .. أهي إشعار بحياة كما
تخيلتها؟!.. أم فوضى كما وصفها صديقي لو كانت كذلك ستكون إذًأ كارثة ليس بالسهل
انقشاعها.
صرت أسير في الطرقات .. ترى أي الوجوه منها سعيدة بحق .. لا أرى شيئًا ..المشهد ضبابي
جدً ا.. و لكن من باب الإنصاف يجب أن أعطي التجربة فرصة لا يمكن أن أحكم عليها من
مجرد عوارض قابلتها .. لابد من محك حقيقي يحكم عليها .
ما هذا الاصطفاف الذي أراه هناك ؟! .. ترى ما الذي يجتمع عليه هذا الحشد لمشاهدته ؟! ..
اقتربت منهم بالطبع لأفهم ما الذي يجري .. و ما إن اقتربت حتى سمعت همهماتهم .. و كلها
كانت تصب حول شفقة لا أفهم لها مبرر " لا حول و لا قوة إلا بالله " " ما الذي أودى به
لهذا؟" " لقد كان صغيرًا " " حرام الذي حدث".
قاطعتهم بجرأة " ما الذي حدث ؟! "
رد أحدهم يروي " إنه جارنا عاش طوال عمره مغرقًا في الديون كان يعمل ليلا ونهاراً على أمل
أن يجد المال الذي يمكنه من الوصول و ينقذه من وحل الديون .. كنا لا نراه في الحي إلا
نادرًا.. عندما نجالس أباه كان يوصينا أبدًا الدعاء له .. و في اليوم الذي أخبروه أنه و لا نعلم -
كيف وصل لمنصب بأجر ما كان يحلم أن يصل إليه أتته حبيبته الثرية تخبره أن أباها قد -
تراجع عن وعده له بالزواج منها عندما علم عنه ما طرأ عليه مدعيًا أن طريقه لذاك المنصب
بالتأكيد لم يكن مشروعًأ و أنه ما كان ليوافق عليه لولا علمه بنزاهته التي اتضح بأنه انخدع
بها .. لم يتوقع الولد أن يكون هذا هو رد الفعل و زاد من صدمته أن رأى الشك في عين
حبيبته .. عاد إلى بيته ليجد أبوه مفترش الأرض و الناس من حوله لأنه لم يتحمل ما حدث
لولده و ما تغامزه و تداوله الناس عنه و كيف تضمر أحاديثهم تلميحات عن أخلاقه و سلوكه ..
فسقط على الأرض من أثر أزمة قلبية .. ذهب الابن مسرعًا بأبيه إلى الطوارئ و لكن بنهاية
اليوم علم أن أمر الله قد نفذ و قد توفي الأب ".
" ثم "
" وجدوه الآن في نهاية اليوم جثة هامدة ملقاة من نافذة شقته تاركًا ورقة مكتوب فيها أنه لم
يعد هناك ما يحلم به فقد وصل إلى آخر الحلم و من ثم آخر الدنيا "
كيف يحدث هذا ؟!.. كيف تكون هذه النهاية ببساطة ؟! .. ثم أيكون ذنبه في رقبتي أنا و لكني
لم أقصد بالتأكيد لم أقصد سوى الخير!!.
لا أقوى على حركة و لا أستطيع المكوث مكاني و تحمل شعوري الرهيب بتحملي جزء من
هذا الجرم الذي حدث.
ظهر أمامي رجل و كأنه ظهر من العدم لا أعلم من أين حل ؟!.
" ما بك يا رجل ؟! "
لا أصدق أنه هناك من مازال يسأل " هذا الرجل الذي انتحر "
" أهو قريب لك ؟"
" لا على الإطلاق "
" إذًا ما دخلك أنت ؟"
" ألا يؤذيك المشهد ؟! "
" بالطبع يؤذيني .. أتعلم لكم من الوقت تعطلت عن عملي ؟! أتعلم كم كلفتني تلك الثوان التي
انتظرتها بسبب هذا الزحام "
" أتعلم أن هذا الرجل.. "
" و لماذا أعلم ؟ أيخصني أن أعلم ؟ ما الفائدة إن علمت ؟"
" ربما تتعلم "
" و لماذا أتعلم إذا كانت حياتي تسير و اليوم بالتحديد كما خططت بل و أحسن و كل شئ على
أفضل ما يكون لماذًا إذًا أُعكر صفوي بالاستماع إلى دروسك التي بالتأكيد ستكون سخيفة ؟ ..
أخبرني لماذا أتعلم ؟"
أنت يا هذا أجبتني دون أن تعلم .. أنا السبب .. يبدو أن ما أحدثته هو بحق فوضى و فوضى
قوية ربما تودي إلى انهيار لا مفر منه.
إلى أين أذهب بعيد عن كل هذا ؟ .. لقد اختنقت و صار النفس ثقيلًً .. تحاملت على نفسي و
سرت ثم سرت إلى أن وجدتني أمام النيل من جديد .. صرخت صراخ مدوي ثم وضعت
رأسي بين يدي لأستسلم لبكاء لا أعلم كيف أوقفه لأجد يد تُربت على كتفي
" مالك يا ولدي "
" لا شئ "
" أخبرني إن ضاقت بك الحياة فأنا غريب ربما لن تقابله مرة آخرى و لا يعنيه ما ستقوله "
" اتركني و شأني "
" كما تريد يا ولدي "
" انتظر " استوقفني منظره المتواضع .. كيف لم تصبه اللعنة هو الآخر " لماذا أنت محتفظ
بتلك الملابس القديمة لماذا لم يتبدل مظهرك ؟"
" لا أعلم ماذا تقول .. و لكن إنه لبس الصيد فأنا أقضي وقتي كله بالنهر و لا أخرج منه إلا
على ميعاد النوم"
" إذًاً هو كذلك " استعد الرجل لأن يرحل و لكن لا .. يجب أن يبقى بجانبي يجب أن أطمئن به
على وأني لم أفسد كل الدنيا من حولي.
أوقفته بكلماتي " لقد كانت نيتي إصلاح .. لقد تمنيت الخير و لكن الذي حدث كان شر مبين "
" لماذا تمنيت ؟"
" لا أعلم ربما رغبة ربما احتياج "
" لأنك احتجت "
" بلى, ربما "
" و طالما احتجت ستحاول مرة آخرى إلى أن تصل "
" لا أعتقد فما رأيته كان صادم حقًا "
" إن الحاجة يا ولدي هي أصل الحركة في الحياة و أنه طالما أنت جوعان ستظل تبحث و
تبحث حتى تشبع و لكن إن شبعت .. سيكون هذا إعلان استغناء يليه استعلاء و نفور ينتهي
بجهل "
" أنت ... "
" أرأيت بعمرك متكبر عالم ؟ "
" لم أنظر للًأمر من قبل "
" لا لم يحدث .. الكبر يا ولدي هو أول الجهل "
" و لماذا لا نملك كل شئ ؟!"
" أستتحمل ثقلها ؟!"
" ماذا تقصد ؟"
" حينما وُضعت الحدود ربما ضايقتك و لكن في الحقيقة فقد أراحتك من أعباء لا طاقة لك
بحملها .. احترم ضعفك يا عزيزي ففيه يكمن كل الرحمة "
" لا أفهم "
" لا تشعر تقصد "
" و الحل "
" ببيد الله ياولدي الذي إن أنار قلبك أراك من مفاتح علمه ما يجعلك تدرك حكمته "
" و ما أحدثته قبلًا "
" استغفر الله و ليهديك هو من عنده "
بكيت و لا أعلم حلا و كل الذي يملؤ قلبي و عقلي حتى طفح على فمي طلب للعفو و الصفح ..
لا أطيق أن أعود للواقع على وضعه .. يا ليتني لم أفكر و لم أتمنى .. مالي أنا و مال الناس
من فَقُر و من غني .. مالي و اللعب بمقدرات لا علم لي بحلها.
" لن أعود " خرجت من تلقائها
" ماذا تقصد يا بني ؟"
" سأظل هنا .. بالنيل "
" لا أفهم "
" المهم أنك لا تمانع "
" و من أنا لأمانع أو أن أمنع عنك باب رحمة إذا كانت الأرض واسعة فالنيل أوسع و الرحمة
يا ولدي أوسع و أوسع"
" استغنيت عن الأرض و مفاسدها و السبيل للصلاح أن يبدأ من عندي .. أنا الفقير على كل ما
امتلكت .. فإذًأ سأكون الفقر إلى أن تغنى نفسي ربما تغنى الدنيا من بعدي ".
تمت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق